بقلم : ذ. إبراهيم الفتاحي
لم أعد احتمل تلك اللقاءات المسماة أدبية، حيث الخطاب النمطي هو السمة الغالبة عند “النقاد”. يبدأون تحليلهم لكل كتاب بعبارات المدح والثناء والتهليل والتكبير للإنتاج المتميز الذي لا مثيل له، ثم يطفقون في تحليل “السكلسة” من قبيل: وظف الكاتب المبدع لغة تتراوح بين بلا بلا بلا حينا، وبلا بلا بلا حينا آخر..استعمل المبدع قاموسا مستوحى من عمق التجربة الإنسانية الرفيعة ومسارات الألم والمعاناة والغربة والانتدثار ثم التجاوز والعزلة والسمو والانفراد وصولا إلى حافة الانتحار…يدبج النقاد دوما خطابهم بكلام من قبيل: إن هذا الابداع الأدبي يبعث على التأمل في نتوءات الوجود وانحدارات الواقع في قالب إستيطيقي يتجاوز حدود اللغة العادية لينبجس منه شلال من الآمال والآلام بعدما ضرب الكاتب حجر المأساة بعصاه الإبداعية كأنه موسى، غير أن عصا المبدع الفذ تختلف عن عصا موسى، فالثانية هي عصا نبوة غايتها رواء بني إسرائيل التائهين الهاربين، أما عصا مبدعنا فهي عصا إلهام خاص بالذات السجينة في لجج الحياة والمولودة من رحم المعاناة الازلية الابدية غايتها رواء النفوس المتعبة لقراء أعياهم ضيق الوجود. سمعت أحد النقاد، الذي عرفته متطفلا على النقد والابداع معا، أثناء تقديمه لمجموعة قصصية عادية جدا لكاتب مبتدئ وهو يقول: إن هذه المجموعة ليست مجرد قصص يحكيها المبدع ليتلقاها القارئ العادي، إنها ثورة أنطولوجية في عالمنا المضطرب. قال: إنها قصص موجهة للفلاسفة والمفكرين ممن عانوا ومازالوا يعانون الأسئلة الوجودية الحقيقية، فهي صرخة في وادي الحياة الممتد من الرحم إلى القبر؛ وقد لعب الكاتب المبدع، مثل محترف السيرك، على الحبل السري الرابط بين لحظتي الوجود والعدم. قال الناقد المنافق: لا أبالغ إن قلت إن هذه المجموعة القصصية قد تكون هي المنجاة من المآزق الميتافيزيقية والانطولوجية التي ورطنا فيها فلاسفة كبار أمثال هيدغر وسارتر وسيوران.جعل قول الناقد المنافق شعيرات رأسي مثل الإبر، عدلت من جلستي أكثر من مرة وانا أصيخ السمع لثنائه على ذلك الابداع الذي لا مثيل له. في غمرة لهفي لسماع الأديب الاريب المبدع، سمعت مسير الجلسة يضيف بعض البهارات لهذا الفيلم البوليودي عن البطل المزعوم قبل أن يناوله الكلمة وأنا شبه مستسلم لعبقرية هذا الإلهام القادم من السماء. تناول المبدع الكلمة، ويا ليته لم يفعل، فقد حطم تلك الصورة التي رسمها الناقد البوليودي عنه في مخيلتي بكلامه. كان المبدع مثالا يحتذى في الركاكة والعي والفهاهة، فهو كما قال المعري: هو في الفهاهة باقل. لم ار في محياه ولا في هندامه ولا في جلسته ولا في خطابه ما يوحي أنه مبدع. كان إحساسي يقول: ما ابعد هذا الفتى عن الابداع وعن souplesse التي يتسم بها المبدعون عادة،؛ حتى ربطة عنقه كانت ملفوفة مثل ربطات موظفي البنوك. الفتى مجاز في الأدب العربي، لذلك يظن أنه أمسك بزمام الابداع وحُقَّ له أن يفعل، ولا أظن أحدا أخبره أن الدراسة الجامعية في شعبة الأدب العربي تخرج، بالضرورة، نقادا وليس مبدعين. يبدو شخصا يعيش حياة monsieur tout le monde ولا علاقة له بالمعاناة ولا بالانطولوجيا والوجودية كما قال الناقد المنافق؛ أكاد أجزم أنه سمع اسمي سارتر وهيدغر للمرة الثانية بعدما سمعهما من أستاذ الفلسفة بالثانوي، بينما لم يسمع باسم سيوران إلا هذه المرة من صاحبه الناقد. لململت شتات الصورة المكسورة في مخيلتي. قلت: ربما يكون هذا الفتى من النوع الذي يحسن الكتابة ويعجز عن الكلام، فلن أظلمه، وسأقرأ المجموعة القصصية. اقتنيت نسخة وسلمتها له فوقعها بعبارة: أتمنى أن تنال المجموعة إعحابك. قلت في نفسي: أتمنى ذلك. لم يسألني عن اسمي ليكون جزءا من المكتوب كعادة الموقعين، بل خشيت أن يطلب مني بطاقتي الوطنية من شدة رسميته. غادرت إلى المقهى وبدأت اقرأ قصصه باحثا في ثناياها عن كلام الناقد، فلم أجد شيئا من ذلك، كلام مفعم بالأخطاء اللغوية وأعطاب التعبير. لم أجد حكايات ممتعة ولا كتابة أدبية ولا أفكارا. الكتيب استمناء لغوي وتطفل وقح على عالم الإبداع. الكتاب، باختصار، مثال بيَّن على “التسنطيح”. تركت الكتاب حيث قرأته وانصرفت وأنا أقول للناقد: علاش كتكذب؟ علاش؟ لا أخفي إعجابي بعدد من النقاد المغاربة، فمنهم مثقفون بارعون، وقراء جيدون للأدب والفلسفة وعلم النفس والتاريخ، بعضهم موسوعيون بحق، وكلامهم ممتع؛ لكن لم أفهم هيمنة الطابع الاحتفالي على كل اللقاءات الأدبية، حيث المدح والثناء على كل شيء، والنفخ في من يستحق ومن لا يستحق. أما آن الأوان لتكون تلك اللقاءات منصات للجرأة النقدية فيقال لمن ليس مبدعا إنه ليس مبدعا وأنه لا يصلح للإبداع ويمكنه الكتابة في شيء آخر. #ابراهيم_الفناحي